تشهد المملكة المتحدة مرحلة سياسية مضطربة تتراجع فيها الثقة بالأحزاب التقليدية، وسط تصاعد مشاعر الغربة والتمثيل الناقص. لا يعكس صعود حزب العمال انتصاراً فكرياً بقدر ما يكشف عن فراغ في البدائل، وأزمة عميقة في بنية النظام السياسي. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى قراءة جديدة للسياسة بوصفها علاقة مجتمعية وثقافية، لا مجرد سباق انتخابي.
صدر حديثاً كتاب «عارض ستارمر»، من تحرير الكاتب البريطاني مارك بيريمن، وبمقدمة تمهيدية للنائب العمالي كليف لويس. يشير العنوان إلى أن صعود كير ستارمر إلى رئاسة الحكومة لا يُقرأ بوصفه مشروعاً سياسياً صلباً بقدر ما يُفهم ك«عارض» لحالة أعمق من الاضطراب والخلل داخل النظام السياسي البريطاني.
يقدّم هذا العمل قراءة متعددة الزوايا للتحوّل الذي شهدته المملكة المتحدة بعد انتخابات يوليو/تموز 2024، والتي أسفرت عن فوز كبير لحزب العمال بقيادة ستارمر، عقب أربعة عشر عاماً من حكم حزب المحافظين.
ينطلق الكتاب من مقولة محورية مفادها أن نتائج تلك الانتخابات لا تعكس بالضرورة صعوداً سياسياً لحزب العمال بقدر ما تعكس تراجعاً حاداً في الثقة بحزب المحافظين. فقد حصل حزب ستارمر على أغلبية برلمانية واسعة رغم أنه لم يحقق نسبة تصويت مرتفعة، وهو ما يشير إلى حالة سياسية غير تقليدية، تستدعي مراجعة أعمق للأسباب والسياقات.
يضم الكتاب مساهمات لعدد من أبرز الكتّاب والمحللين السياسيين في بريطانيا، ويستعرض من خلالها مجموعة من القضايا المتشابكة، من بينها تحوّلات الخريطة الانتخابية، وبروز أحزاب وتيارات جديدة، وتراجع نموذج الثنائية الحزبية الذي ميّز السياسة البريطانية لعقود.
تشير الفصول الأولى من الكتاب إلى أن صعود حزب «ريفورم يو كي» (الإصلاح) اليميني، إلى جانب عودة خطاب يساري مستقل خارج حزب العمال، يؤكد أن النظام السياسي البريطاني بات يتجه نحو المزيد من التعددية. ويظهر هذا التحوّل بوضوح في اسكتلندا، حيث تتقدّم القوى الداعية للاستقلال، وفي شمال إنجلترا، حيث تغيّرت الولاءات الانتخابية لصالح أحزاب غير تقليدية.
هذه التغييرات، كما يلاحظ المشاركون في الكتاب، لم تنبع فقط من تحولات اقتصادية أو اجتماعية، بل جاءت أيضاً نتيجة أزمة تمثيل سياسي متراكمة، وضعف قدرة الأحزاب التقليدية على الاستجابة لتطلعات الناخبين، خاصة من فئة الشباب والطبقات الوسطى المتراجعة.
يتناول الكتاب أيضاً شخصية كير ستارمر ونهجه السياسي، حيث يُقدَّم بوصفه زعيماً يميل إلى الحذر والتدرج، ويركّز على استعادة الثقة في المؤسسات أكثر من السعي إلى تغييرات جذرية. ويطرح عدد من الكتاب المشاركين تساؤلات حول قدرة ستارمر على الموازنة بين البراغماتية السياسية ومطالب قاعدة انتخابية باتت أكثر تنوعاً من أي وقت مضى.
في هذا السياق، تبرز مخاوف من أن تؤدي أي سياسات باهتة أو محدودة التأثير إلى تجدد حالة النفور من الأحزاب الكبرى، ما قد يفتح المجال مجدداً أمام صعود التيارات الشعبوية، سواء من اليمين أو من يسار أكثر راديكالية.
ما يميز هذا العمل أنه ينفتح على البعد الثقافي للتحوّلات. ويقدّم فيه المحرر مارك بيريمن رؤية تعتمد على فهم الثقافة السياسية كمساحة لصياغة المعاني العامة، وليس فقط كأداة تعبئة انتخابية. يرى بيريمن أن مستقبل السياسة البريطانية يتوقف على مدى قدرة الأحزاب على بناء علاقة عضوية مع المجتمع، قائمة على المشاركة، والشفافية، والتعدد، بدلاً من الاستقطاب الحاد أو الإدارة من الأعلى. ويربط هذا التصور بما يسميه «ثقافة اليسار الجديدة»، التي تستمد زخمها من النقاش العام، وليس من الهياكل الحزبية وحدها.
يقدّم الكتاب في عمومه مادة تحليلية غنية للمهتمين بتحوّلات السياسة البريطانية في المرحلة الراهنة، ويفتح الباب أمام نقاش أوسع حول دور الأحزاب، ومستقبل الديمقراطية التمثيلية، وتحديات بناء مشروع سياسي قادر على استيعاب التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لعصر جديد.
0 تعليق