في وقت ظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يغادر البيت الأبيض منفرداً متجهماً دون داعٍ رسمي، عقب لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن مصادر كشفت عن اجتماع محموم شهد صراخاً وسباباً، بسبب ما يسمى «الحزام الحصين»، ولكن هذه المرة وقعت المواجهة خلف عدسات الكاميرات وليس علناً، كما حدث في اجتماع فبراير /شباط الشهير.
المصادر المطلعة على الاجتماع، قالت إن ترامب ظل يلعن ثم ألقى في إحدى المرات خرائط خط المواجهة في أوكرانيا جانباً، قائلاً: «لقد سئمت من النظر إليها مراراً وتكراراً. هذا الخط الأحمر - لا أعرف مكانه حتى. لم أزره قط»، ثم حاول الضغط على زيلينسكي للتخلي عن أراضٍ لصالح روسيا من أجل وقف القتال، وهدده قائلاً: «بوتين سيدمرك إذا أراد ذلك.. ما لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام».
كما لوح لزيلينسكي برفضه إرسال صواريخ توماهوك بعيدة المدى، وعلى عكس ما ذكره سابقاً، فقد شدد له على أن «الاقتصاد الروسي في حالة ممتازة»، وأنها تكسب الحرب الجارية.
«الحزام الحصين»
والخط الأحمر الذي تتحدث عنه أوكرانيا معني بتسليم دونيتسك لروسيا، لكنها رفضت منذ فترة طويلة التنازل عن هذه الأراضي، التي لم تتمكن موسكو من السيطرة عليها تماماً بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام من الحرب، إذ لا تزال كييف تسيطر على ربع مقاطعة دونيتسك تقريباً، فيما تُشكل هذه الأرض جزءاً مما يُسمى «الحزام الحصين»، وهو سلسلة من المدن شديدة التحصين، تمنع روسيا من التقدم السريع غرباً نحو العاصمة كييف.
ووفق المصادر المطلعة، فقد حظي ترامب خلال الاجتماع بدعم من مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف، الذي كان من بين أولئك الذين حثوا أوكرانيا بقوة على التخلي عن دونيتسك، مدعياً أن المنطقة، وكذلك لوغانسك، تضم عدداً كبيراً من السكان الناطقين بالروسية. لكن أثناء عودته إلى واشنطن الأحد، قال ترامب للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية إن الجانبين «يجب أن يتوقفا عند خطوط المواجهة الحالية».
وحاول ترامب التخفيف من حدة المعلومات المسربة عن الاجتماع الغاضب في البيت الأبيض مع زيلينسكي الجمعة، حيث وصفه باللقاء الودي، كما دعا إلى وقف إطلاق النار على طول خط المواجهة الحالي، بينما يطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانسحاب الجيش الأوكراني من المنطقة الشرقية الحيوية كشرط مسبق للسلام.
وعندما سُئل عما إذا كان قد أبلغ الرئيس الأوكراني بضرورة تنازل كييف عن كامل منطقة دونباس، أجاب ترامب بالنفي، مضيفاً: «فلتُقطع كما هي. لقد تم قطعها الآن. أعتقد أن 78% من الأرض قد استولت عليها روسيا بالفعل». ومضى قائلاً: «اتركوا الأمر كما هو الآن. يمكنهم التفاوض على شيء ما لاحقاً».
وقال مصدر إن ترامب قدّم هذا الاقتراح بعد أن قال زيلينسكي خلال الاجتماع إنه لن يتنازل طواعية عن أي أراض لموسكو. ويسعى ترامب جاهداً إلى تأمين اتفاق سلام آخر بعد نجاح تدخله في الحرب بين إسرائيل وحماس.
«صفقة بوتين»
وخلال مكالمتهما الهاتفية، أبلغ بوتين ترامب استعداده للتنازل عن أجزاء صغيرة من منطقتي زاباروجيا وخيرسون الجنوبيتين الخاضعتين لسيطرة روسيا مقابل استعادة بقية إقليم دونباس. وقد واجهت موسكو صعوبة في السيطرة على هذه المنطقة، ولم تُحرز أي تقدم يُذكر على خط المواجهة الجنوبي منذ عام 2022.
لكن دبلوماسياً أوروبياً قال لصحيفة واشنطن بوست إن أوكرانيا لن تقبل أبداً بمثل هذه الصفقة. وأضاف: «الأمر أشبه ببيعهم ساقهم دون مقابل».
وبحسب مراقبين، لا يمثل مقترح بوتين الجديد سوى تنازل متواضع مقارنةً بالتنازل الذي قدمه في قمة ألاسكا، عندما طالب باستعادة كامل منطقة دونباس مقابل وقف إطلاق النار على طول خطوط السيطرة القائمة دون أي انسحاب روسي من زابوريزهيا وخيرسون.
ترامب يتأرجح بشأن روسيا و«قمة الصراخ»
منذ عودته إلى البيت الأبيض، غيّر ترامب مراراً موقفه من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، التي تعهد خلال حملته الانتخابية بإنهائها في غضون 24 ساعة، لكنه اعترف لاحقاً بأنه فشل في تحقيق ذلك، واصفاً إياها بأنها التحدي الأصعب الذي يواجهه في السياسة الخارجية.
صدمت المواجهة العلنية السابقة، التي سُميت «قمة الصراخ»، العالم وانتهت بطرد زيلينسكي من البيت الأبيض في شهر فبراير الماضي، لكن بعد أزمة قصيرة علّق فيها ترامب المساعدات العسكرية لكييف، تصالح الزعيمان واجتمعا عدة مرات.
في الأشهر الأخيرة، أعرب ترامب عن إحباطه من رفض بوتين مبادرته لوقف إطلاق نار فوري على خطوط المواجهة الحالية، وهي مبادرة تبناها زيلينسكي - وفي يوليو/تموز، هدد بفرض رسوم جمركية باهظة على روسيا، موجهاً إنذاراً نهائياً واضحاً لبوتين.
ولكن في اللحظة الأخيرة، تمكن بوتين من تعطيل الإنذار النهائي من خلال عرض لقاء ترامب في ألاسكا، حيث أرجأ مرة أخرى أي اتفاق لإنهاء الحرب بينما استمرت القوات الروسية في الاستيلاء على أراض إضافية بوتيرة بطيئة وبكلفة باهظة.
وبعد قمة ألاسكا في أغسطس/آب، أعرب ترامب مرة أخرى عن خيبة أمله في سلوك بوتين، ثم في سبتمبر/أيلول، وفيما وصفته وسائل الإعلام العالمية بأنه تغيير حاد في الاتجاه، بدأ يتحدث بقسوة عن روسيا: داعياً إلى إسقاط طائراتها إذا دخلت المجال الجوي الأوروبي، ووصفها بأنها «نمر من ورق»، وأعرب عن ثقته بقدرة أوكرانيا على استعادة جميع الأراضي التي فقدتها لصالحها.
الاستفادة من نجاح استراتيجية غزة
على خلفية وقف إطلاق النار في حرب غزة، كرّس ترامب جهوده مجدداً في الأيام الأخيرة لإنهاء الحرب المستعرة في شرق أوروبا، والتي استمرت أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة من الصراع، مُصرّحاً بأنه يدرس تزويد كييف بصواريخ توماهوك دون اتفاق. وكان من المتوقع أن يكون تسليم هذه الصواريخ القضية المحورية في القمة مع زيلينسكي.
ولكن في اليوم السابق، تحدث بوتين مرة أخرى مع ترامب ونجح في تأمين قمة متابعة في المجر، ويبدو أنه غيّر رأي ترامب: فوفقاً للكرملين، حذر بوتين ترامب من أن نقل الصواريخ لن يكون له تأثير دراماتيكي في ساحة المعركة، لكنه سيضر بالعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
نفي زيلينسكي يؤكد ما دار في الاجتماع
وفي انعكاس لما دار خلال اجتماعه مع ترامب، نفى زيلينسكي فوز روسيا في الحرب، وقال إن هدفه لا يقتصر على شريحة أخرى من الأراضي. وقال إن «الجيش الروسي الآن في موقف ضعيف»، حيث وردت تقارير عن مقتل أو إصابة 1.3 مليون جندي روسي، وتم الاستيلاء على 1% فقط من الأراضي الأوكرانية منذ بداية الحرب تقريباً.
واستطرد قائلاً: «لا أفهم لماذا يحتاج زعيم الدولة صاحبة أكبر مساحة في العالم إلى كيلومترات إضافية، ولهذا أعتقد أن هذه الحرب ليست على الأرض، بل هي من أجل تدمير سيادة واستقلال أوكرانيا».
ومن المقرر أن يلتقي ترامب وبوتين في بودابست خلال الأسبوعين المقبلين في محاولة لإحراز تقدم في التوصل إلى اتفاق سلام. وقال زيلينسكي يوم الاثنين إنه مستعد للانضمام إلى الاجتماع إذا تمت دعوته.
0 تعليق