الشارقة: سارة المزروعي
حين نضع ثمرة أفوكادو خضراء وقاسية بجوار بعض التفاح الناضج، فإننا لا ننتظر طويلاً حتى تتغير رائحة الثمرة ولونها وقوامها، وكأن التفاح سرّب إليها سرّاً خفياً يوقظ فيها طاقة النضج، هذا السر هو غاز الإيثيلين، الذي يُعدّ من أهم الهرمونات النباتية الطبيعية، والمسؤول عن الكثير من التغيرات التي ترافق نضوج الفواكه؛ حيث إن تأثيره حاضر بوضوح في الفواكه والخضراوات، في زوايا المطبخ وحتى داخل الثلاجة.
الإيثيلين ليس مادة مضافة كما قد يظن بعضهم، بل تنتجه الثمار بنفسها عند بلوغها مرحلة معينة من النمو، فتبدأ بإفراز هذا الغاز الذي يُعدّ علامة على اقتراب النضوج؛ إذ تنشط داخله عمليات طبيعية تُغيّر طعم الثمار ورائحتها وتكسبها ليونة تفتح شهيّة المستهلكين.
وعلى الرغم من أن الإيثيلين غاز خفيف وعديم اللون والرائحة في طبيعته، فإنه داخل النباتات يؤدي وظيفة الهرمون؛ إذ يعمل كإشارة كيميائية تُنظّم عملية النضج من الداخل، وتحفّز الخلايا على إنتاج الأصباغ الطبيعية والسكريات التي تمنح الثمار لونها الزاهي وطعمها الحلو، والمثير أنه الوحيد من بين الهرمونات النباتية الذي يوجد في الحالة الغازية، بينما تكون الأنواع الأخرى في صورة سائلة أو صلبة تنتقل عبر الأنسجة.
ولا يقتصر دور الإيثيلين على النضج فحسب، بل يمتد أيضاً إلى تحفيز نشاط إنزيمات في منطقة الفصل داخل النبات، وهي المنطقة المسؤولة عن انفصال الأوراق أو الثمار الناضجة عن الساق. إذ يُضعف هذا الغاز الروابط بين الخلايا في تلك المنطقة، فتُصبح الثمار أكثر قابلية للسقوط أو الجني الطبيعي، في مشهد يُجسّد نهاية دورة حياة الثمرة بعد اكتمال نضجها.
هذه الخاصية الفريدة تمنحه قدرة على الانتشار من ثمرة إلى أخرى دون ملامسة، فيؤثر في الفواكه المجاورة كأنه لغة خفية تتحدث بها الطبيعة، لا تُرى بالعين ولا تُسمع بالأذن، لكنها تُترجم في المذاق والرائحة واللون.
الاستجابة للإيثيلين
تختلف الفواكه في طريقة تعاملها مع هذا الغاز، فبعضها ينتج كميات مرتفعة منه، وتُعرف بالفواكه المناخية؛ مثل المانجو، والكيوي، والأفوكادو، والكمثرى، والطماطم، هذه الأنواع يمكن قطفها قبل النضج الكامل، ثم تُترك في أماكن معتدلة الحرارة لتستكمل عملية النضوج طبيعياً.
في المقابل، هناك فواكه أخرى ضعيفة الاستجابة للإيثيلين تُعرف باسم الفواكه غير المناخية، مثل الفراولة والعنب والحمضيات والرمان والبطيخ الأحمر، هذه الفواكه لا تواصل النضوج بعد القطف، بل تبدأ تدريجياً في فقدان نضارتها إن لم تُستهلك بسرعة، ولهذا يحرص المزارعون على قطفها في ذروة نضجها الطبيعي حتى تحتفظ بمذاقها الأصلي وجودتها العالية.
أما الحمضيات كالجريب فروت والبرتقال، فيُمكن أن تتأثر بالإيثيلين الخارجي، فيتغير لون قشرتها إلى درجة أكثر إشراقاً، لكن طعمها يبقى كما هو دون أن يتغير، أما الأناناس فيُعد من أقل الفواكه إنتاجاً للإيثيلين، ولذلك لا يواصل النضوج بعد قطافه مهما طالت مدة التخزين.
ويُلاحظ أن الفواكه ذات الرائحة القوية غالباً ما تكون الأغنى بهذا الغاز الطبيعي، فكلما ازدادت حلاوتها وانتشرت رائحتها الزاهية، دلّ ذلك على نشاط الإيثيلين داخلها واستعدادها التام للنضوج.
توازن دقيق
يلعب الإيثيلين دوراً مزدوجاً في حياة الثمار، فهو يمنحها نكهتها المكتملة ولونها الزاهي، لكنه في الوقت نفسه قد يسرّع تلفها إذا زادت نسبته، فالفاكهة الناضجة كثيراً تفقد تماسكها بسرعة وتتحول إلى قوام طري، خصوصاً إذا وُضعت بجوار فواكه أخرى تُطلق هذا الغاز بكثرة. ولهذا يُنصح دائماً بفصل الأنواع الحساسة مثل العنب والفراولة عن الأنواع النشطة كالمانجو والطماطم، لتجنب تسارع النضج.
في عالم الزراعة الحديثة، أصبح الإيثيلين أداة علمية دقيقة تُستخدم بحذر وذكاء، فالمزارعون يوظفونه لتوحيد نضج الثمار قبل عرضها في الأسواق، أو لتقليل الفاقد بعد الحصاد عبر التحكم في نسبه داخل غرف تخزين مُحكمة الإغلاق تُضبط فيها التهوية والحرارة بعناية، كما تُستعمل مواد خاصة تُعرف باسم موانع الإيثيلين، تعمل على إبطاء تأثيره والحفاظ على الفاكهة لفترات أطول دون أن تفقد لونها أو قوامها.
0 تعليق