معتقلو نظام الأسد وذوو المفقودين.. جرح مفتوح بلا دعم نفسي

عنب بلدي 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عنب بلدي – كريستينا الشماس | مروان المضحي

لا تنتهي حكاية الاعتقال القسري عند فتح باب الزنزانة أو الخروج إلى الحرية، بل تبدأ مرحلة أكثر قسوة وتعقيدًا، عنوانها مواجهة الذاكرة والجسد المنهك دون سند أو رعاية.

المعتقلون السابقون في سجون نظام الأسد، وذووهم، خرجوا من تجربة قاسية محملين بآثار نفسية وصحية عميقة، في وقت كان يفترض فيه أن يجدوا الحد الأدنى من الدعم، لكنهم وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة الصدمة.

لم تكن سنوات الاعتقال مجرد حرمان من الحرية، بل كانت عملية تدمير ممنهجة للنفس والجسد، استخدمت فيها أدوات التعذيب والإذلال والعزلة، وغابت عنها أي معايير إنسانية أو طبية، وبعد الخروج، لم تتغير الصورة كثيرًا، إذ اصطدم الناجون بفراغٍ “قاتل”، وغياب شبه كامل لأي برامج دعم نفسي أو تأهيل صحي، سواء من الجهات الرسمية أو المنظمات الإنسانية.

توثق عنب بلدي في هذا التقرير شهادات لمعتقلين سابقين وذوي مفقودين، تكشف حجم المعاناة المستمرة بعد السجن، وتسلط الضوء على الإهمال اللاحق الذي فاقم آثار التجربة، وأبقى الجرح مفتوحًا حتى اليوم.

ذاكرة التعذيب وغياب الرعاية

أمضى أحمد الأكرم، مهندس في منتصف الثلاثينيات، ثلاث سنوات في الاختفاء القسري، معظمها في الحبس الانفرادي داخل زنزانة لا تتجاوز مساحتها المترين.

يروي أحمد كيف تحول الزمن إلى عبء ثقيل، فكان يعد الأيام عبر حفر خطوط على الجدار، قبل أن يفقد القدرة على العد، ثم يفقد الإحساس بتعاقب الليل والنهار.

بالنسبة لأحمد، كان التعذيب الجسدي مؤلمًا لكنه مؤقت، بينما كان الصمت والعزلة والتجويع والإهمال الطبي أشد فتكًا، إذ أصيب بالتهاب رئوي حاد نتيجة الرطوبة العالية وانعدام التهوية.

“كنت أسعل دومًا وحين كنت أطرق الباب طلبًا للمساعدة، كان الحارس يصرخ بي قائلًا: (مت بصمت، لا تزعجنا)، لم أرَ طبيبًا لمرة واحدة، كانوا يستخدمون مرضي وسيلة لابتزازي نفسيًا”، قال أحمد.

وبعد عام على خروجه من سجن “صيدنايا”، لا يزال يعاني من اضطرابات النوم، والخوف من الأماكن المغلقة، وفقدان جزء من ذاكرته وقدراته الذهنية، مؤكدًا أنه لم يعد الشخص نفسه الذي تخرج في كلية الهندسة.

ورغم وضوح الآثار النفسية والجسدية، قال أحمد، إنه لم تتواصل معه أي جهة لتقديم دعم نفسي أو علاج، ليبقى وحيدًا في مواجهة صدمة مضاعفة، زادها قسوة اكتشافه مقتل صديقه المقرب في السجن.

ووصفت ليلى، وهي محامية فضّلت عدم نشر اسمها الكامل، الاعتقال بعملية “ممنهجة لسحق الكرامة الإنسانية”.

اعتُقلت ليلى بتهم ملفقة، وجُردت من اسمها وهويتها، لتتحول إلى رقم داخل السجن. تعرضت للحرمان من النوم لأكثر من 72 ساعة متواصلة، مع تسليط أضواء قوية على عينيها، وتهديدها باعتقال أفراد عائلتها.

وتروي ليلى أنها تعرضت للاغتصاب المتكرر، بما يزيد على 30 مرة، إضافة إلى الضرب المبرح، خصوصًا في سجن مطار “المزة العسكري”، حيث تصف الإرهاب النفسي والجسدي هناك بأنه يدفع الإنسان إلى تمني الموت هربًا من العذاب.

عند خروجها من المعتقل، كانت ليلى تعيش صراعًا داخليًا بين الخوف والذنب، لكنها فوجئت بأن أفراد عائلتها، وعلى رأسهم والدها، كانوا الداعم الأساسي لها، وساعدوها على مواجهة آثار الصدمة.

ورغم هذا الدعم العائلي، تؤكد ليلى أن غياب أي رعاية أو تدخل من منظمات دولية أو إنسانية ترك شعورًا عميقًا بالخذلان، مشيرة إلى أن المعتقلين كانوا يُعذبون في عزلة تامة وكأنهم خارج حسابات العالم.

“لم يزرنا (الصليب الأحمر) ولا منظمات دولية، كنا نُعذب في غرف معزولة وكأننا في كوكب آخر، خرجت من المعتقل بجسد هزيل، لكن المشكلة الأكبر هي فقدان الثقة المطلق في البشرية”، وصفت ليلى حالها.

وتتجسد الذاكرة عند الشاب يوسف، في العشرينيات من عمره، بوصفها سجنًا مفتوحًا، إذ تعرض لأبشع أنواع التعذيب، من التعليق والصعق بالكهرباء، واحتُجز في زنازين جماعية خانقة، انتشرت فيها الأمراض الجلدية.

أُصيب بجرب حاد، وبدلًا من علاجه، كان يُعاقَب بسكب الماء البارد عليه في الشتاء.

اليوم، يعيش يوسف على وقع نوبات خوف مفاجئة، تتجدد عند رؤية بدلة عسكرية أو سماع صوت مفاتيح.

ويروي يوسف حادثة تجمد فيها تلقائيًا رافعًا يديه على الحائط عندما سمع اسمًا مرتبطًا بذكريات التعذيب، ورغم تسجيل اسمه لدى منظمات عدة، لم يتلقَ أي دعم نفسي أو مهني، وبقي وحيدًا في مواجهة آثار التجربة.

“نحن اليوم أحياء جسديًا، لكننا نعيش في سجن أكبر وهو ذكرياتنا التي ترفض أن تخمد”، قال يوسف.

أم تكتب رسالة لابنها المفقود في احتفالية باليوم العالمي لحقوق الإنسان بدمشق - 10 كانون الأول 2025 (عنب بلدي/أحمد مسلماني)

أم تكتب رسالة لابنها المفقود في احتفالية باليوم العالمي لحقوق الإنسان بدمشق – 10 كانون الأول 2025 (عنب بلدي/أحمد مسلماني)

ذوو المفقودين يتشاركون المعاناة

لم يقتصر أثر الاعتقال القسري في سجون نظام الأسد على من خرجوا أحياء من الزنازين، بل امتد ليطول عائلاتهم، التي وجدت نفسها في مواجهة نوع آخر من العذاب.

فذوو المفقودين يعيشون صدمة مركبة، تجمع بين فقد الأحبة، وغياب العدالة، وانعدام الدعم النفسي الذي يفترض أن يواكب هذه المأساة الممتدة منذ سنوات.

ضمن هذا السياق، حضرت أروى العمري، معتقلة سابقة، فعالية أقامتها “رابطة معتقلي سجن صيدنايا”، للمطالبة بحقوقها وحقوق عائلتها التي فقدتها خلال سنوات الاعتقال والانتهاكات.

وتروي أن زوجها فُقد منذ عام 2015، ومنذ ذلك الوقت لا تتوفر أي معلومات عن مصيره حتى اليوم، فيما أُعدم ابنها ميدانيًا في سجن “صيدنايا” عام 2016، وفق ما ظهر لاحقًا في السجلات الرسمية.

لا تبحث أروى عن شيء آخر سوى إجابة واضحة عما جرى لابنها وزوجها، بعد سنوات من الغياب والألم وعدم اليقين.

مبادرات دعم نفسي

تحدث محمد إياد تركاوي، اختصاصي نفسي في “رابطة معتقلي سجن صيدنايا”، لعنب بلدي، أن أهالي المفقودين يشكلون فئة تعيش مشاعر مختلطة في هذه المرحلة، فهم يشعرون بفرح التحرير من جهة، وبالألم من جهة أخرى، في ظل غياب أي معرفة بمصير أبنائهم حتى اليوم، مضيفًا أنه من هنا جاءت رغبة “الرابطة” في تسليط الضوء عليهم والتأكيد أنهم حاضرون في الذاكرة، وأن معاناتهم تحظى باهتمام حقيقي، بوصفهم أصحاب قضية ومعاناة خاصة.

وفيما يتعلق بمطالب أهالي المفقودين وما يمكن أن تقدمه “الرابطة” لهم، أوضح تركاوي أن “الرابطة” تقوم بدور حلقة الوصل بين الأهالي وهيئة العدالة الانتقالية التابعة للحكومة، وتسعى بشكل مستمر إلى إيصال أصواتهم ومطالبهم إلى الجهات الحكومية المعنية، كما تعمل على توثيق التجارب التي مر بها الأهالي، إلى جانب توثيق أسماء المفقودين.

وأضاف أن “الرابطة” تضم قسمًا مختصًا بالدعم النفسي والفيزيائي، يقدم خدمات متخصصة لأهالي المفقودين، انطلاقًا من حقهم في الحصول على الدعم النفسي بعد ما عاشوه من تجارب قاسية، إضافة إلى العلاج الفيزيائي، وتشمل هذه الجهود جلسات وورشات مخصصة لهم، تهدف إلى تقديم الدعم النفسي ومساعدتهم على مواجهة آثار المعاناة المستمرة.

ملف “معلّق”

ملف المعتقلين والمختفين قسرًا لا يزال، بعد عام على سقوط النظام السابق، يعاني غيابًا شبه كامل للاهتمام، إلى جانب افتقار واضح لأي خطوات جدية باتجاه المحاسبة أو كشف المصير، بحسب منسقة ومسؤولة التواصل الداخلي في “رابطة عائلات قيصر”، سوسن هبالي.

وقالت هبالي، لعنب بلدي، إن أي جزء من العدالة لم يتحقق حتى الآن، كما لم تُسترد حقوق المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب ولا حقوق ذويهم، الأمر الذي أبقى هذا الملف معلقًا دون أي تقدم ملموس، وسط غياب الشفافية من قبل الجهات أو المؤسسات التي يفترض أن تعمل عليه.

وأشارت هبالي إلى أن “الرابطة” تتعامل مع هذا الواقع عبر سلسلة من الخطوات، من بينها التواصل مع المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين، والمشاركة في زيارات مشتركة مع روابط أخرى إلى الحكومة السورية بهدف الضغط لكشف مصير المعتقلين.

كما عملت “الرابطة” على تمكين ذوي المعتقلين الذين وردت أسماؤهم ضمن ملف “شهداء قيصر” من خلال تدريبات وجلسات دعم نفسي، إلى جانب افتتاح مكتب لها في دمشق، وتعزيز التشبيك والتواصل مع جهات دولية معنية بقضية المعتقلين.

وفيما يتعلق بالمعتقلين الذين أُفرج عنهم ولم يتمكنوا من العودة إلى حياتهم الطبيعية، أوضحت هبالي أن الرابطة تسعى إلى مساعدتهم على الاندماج مجددًا في المجتمع عبر تقديم جلسات دعم نفسي، إضافة إلى ما هو متاح من دعم مادي، والعمل على توثيق قصصهم ونشرها للتعريف بمعاناتهم وتسليط الضوء على آثار الاعتقال المستمرة.

وأكدت أن دمج الناجين من الاعتقال ودعم عائلات المفقودين يشكلان ركنًا أساسيًا في تحقيق استقرار المجتمع وتعافيه، مشيرة إلى أن ذلك يتطلب توفير فرص العمل والتعليم وتأمين الاحتياجات الأساسية وفق هرم “ماسلو”، إلى جانب برامج إعادة التأهيل.

أما على الصعيد النفسي، فترى هبالي أن الدعم يتحقق من خلال جلسات علاج متخصصة وبرامج موجهة للتعامل مع الصدمات، بما يساعد المتضررين على تجاوز التجربة القاسية ومتابعة حياتهم بشكل أكثر توازنًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق