هندسة التجاهل

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
هندسة التجاهل, اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025 12:42 صباحاً

الوقوف أمام الجمهور لسنوات طويلة في المحافل والمؤتمرات علمني لغة الصمت أكثر من الكلام، ولغة العيون قبل الشفاه، وقراءة صفحات الوجوه، وتمييز العاقل من المعتوه، واحترافية التعامل مع المفاجآت، والعزيمة بثبات، فإن بدأت مضيت، وإن نطقت أسمعت، وإن سكت جذبت، حتى جعلت للنظرة كلمة، وللصمت نغمة، وللالتفاتة حكمة.

تعلمت كل ذلك حقيقة، لكن هل يعني ذلك أني أتقنت، أو من التعامل مع كل ذلك تمكنت؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن القدرة على الشيء لمجرد معرفته؟

إن معرفة الشيء وإن كان فرعا عن تصوره لا يعني بالضرورة القدرة عليه، فنحن نعرف الطائرات، لكن لسنا جميعا نستطيع قيادتها، ونعرف الأكل اللذيذ، لكن ذلك لا يعني قدرتنا على صناعته، كما نعتقد معرفتنا بالبشر على مختلف الأعمار والأعمال، لكن ذلك لا يعني قطعًا أنا ندرك حقيقتهم، ونملك القدرة على مكامنهم، فالأمر ليس بالسهولة التي قالها سقراط «تكلم كي أراك»، ولذا نجد أنه رغم كل ما مر، وما يمر، من حلو الأيام ومن المر، لا نزال نخدع بوجه الغادر، والصاحب المتنكر، والزميل الناكر، فنقرب ذلك لابتسامته، ونصدق الثاني لوسامته، ونأتمن الآخر لبراءة ملامحه، تماما كنعومة الكوبرا، لكنهم أشد منها فتكا.

إن الحقيقة الوحيدة الثابتة عند البشر هي «حقيقية الضد» فمن يبادر لك، يبادر لغيرك، ومن يؤيدك ليس شرطًا يؤمن بك، بل إن من الفطنة ألا تثق بفطنتك، ولذا قالت العرب «سوء الظن من الفطن»، ويزداد الدرس قساوة ونصبًا كلما كنت ذا مكانة أو منصبًا، فأقرب الناس منك أشدهم عليك، وأبعدهم عنك أقربهم إليك، والأغرب هو أن النجاح يحيطك بألد الأصدقاء، ممن يوافقك لينال منك، فتراه يعزز غفلاتك، ويفرح بعثراتك، فإن كنت لا تُقرب إلا من يثني عليك، ويلبي لك، فاعلم أنك تحفر مدفنك، وتعلق مشنقتك.

فهل يعني هذا أن أكون متوحشا، لا أقبل من القريب مكانا ولا أعطي النصوح أمانًا؟

بالطبع ليس الأمر بهذه الحدية، لكنها ليست عن ذلك ببعيد، فالذي يلزم فعله، ولست معذورًا بجهله، هو اختيار من يستحق قربك بعناية كبرى، إذ «أنت متوسط أقرب خمسة أشخاص تتفاعل معهم» كما قال جيم رون، فإن أحسنت اختيار متوسطك، أبرعت في معرفة من يستحق تجاهلك قبل عنايتك، ولذا قال نيتشه «لا تتحدث مع من لا يغيرك، ولا يجعلك ترى العالم بشكل مختلف»، ومنه يمكن القول إن التجاهل هو أول خطوات النضج، إذ إن العقل الناضج كما وصفه أفلاطون «هو الذي يستطيع أن يستمع إلى جملة الآراء دون أن يتبنى أيا منها».

فإذا حاولنا ترتيب المستحقين للتجاهل؛ نجد أن الأول بمرتبة الشرف هو من لا يفهم صمتك، لأنه بلا ريب لن يفهم حديثك، ذلك أن المتعمق بك هو من وصفه جبران بقوله «إذا صمت صديقك ولم يتكلم، فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه»، ويأتي بعده من لا يدرك ألمك، وما أهمك، من نبر صوتك، ولا يقل عنه من لا يقدر لك حرصك، ونصحك، فلا يسمع إلا لنفسه، فلن تجد لحديثك موقعا في أذنه، فضلا عن قلبه، «فمن لا يملك أذنين للإصغاء، لا يستحق فما للرد» - أفلاطون. بل إن من يتكلف لك، كذلك يستحق تجاهلك، «فمن لا يرعاك إلا تكلفا فدعه ولا تكثر عليه التأسفا» - الشافعي. والقائمة تطول، ولعل مختصرها، من لا يزيدك ينقصك، وأن هندسة التجاهل هي ميزان يحقق لك البعد الذي يصان به الود.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق