كيف نفكر في الســيـاســة؟

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تمثّل السياسة اليوم مساحة لصياغة الرؤى وتنظيم الحياة المشتركة، يتلاقى فيها الفرد والمجتمع عبر الحوار والمعرفة. ومع تعدد الاتجاهات الفكرية، يبرز التفكير الواعي في السياسة باعتباره ممارسة إنسانية تسعى إلى الفهم والتوازن، وإلى بناء إدراكٍ أعمق للعالم الذي نصنعه يوماً بعد الآخر.
يأتي كتاب «كيف نفكر في السياسة» للبروفيسور بيتر آلن، الصادر عن منشورات جامعة أكسفورد عام 2025، كدعوة صادقة إلى التمهّل والتفكير، وإلــى التأمل الهادئ في جوهر الممارسة السياسية. فالكاتب يرى أن أكثر ما يحتاج إليه الإنسان اليوم هو قدرة أعمق على فهم المعلـــومات وتحليلها وربطها بالواقع، لأن السياسة، كما يؤكد، تبدأ من الوعي قبل أن تنتهـــي في صــناديق الاقتراع، وتُبنى على الفهم قبل أن تُترجم إلــى مواقـــف أو أصـــوات انتخابية.


الوعي كمدخل إلى الفعل السياسي


يبين الكاتب في مستهل عمله أن علاقته الأولى بالسياسة بدأت في طفولته، حين كان في التاسعة من عمره وقت فوز توني بلير في انتخابات عام 1997، إذ طلبت منه جدته أن «يخرج ويستنشق هواء حزب العمال». كانت تلك اللحظة، كما يروي، أول مرة يدرك فيها أن السياسة قادرة على أن تغيّر حياة الناس بسرعة وأنها تستحق الاهتمــام، ومنذ ذلك اليوم بدأ يربط بين السياسة والحياة اليومية، ويرى أنها أشبه بالهواء الذي نتنفسه، فهي تحيط بنا وتشكل مصيرنا، وتمتد في تفاصيل حياتنا على نحوٍ لا نكـــاد نلاحظـــه ولكنه يوجّهنا في كل اتجاه.
ويشير آلن إلى أن سنوات التسعينيات وبداية الألفية منحت جيله شعوراً بالاستقرار النسبي، وكأن العالم يسير في مسار واضح ومأمون، وكانت الأحزاب السياسية تتحدث عن تحسين الأوضاع وتعزيز الرفاه، والناس يعيشون حالة من الثقة المتزايدة بالمستقبل. ومع ذلك، جاءت أزمة عام 2008 المالية لتكشف هشاشة النظام العالمي وتعيد خلط الأوراق، معلنة بداية مرحلة من الشكّ والاضطراب التي امتدت آثارها إلى كل ميادين الحياة، فغيّرت المزاج العام وأعادت تعريف علاقة الإنسان بالسياسة وبمؤسساتها.
ويروي الكاتب أنه دخل عالم السياسة بهذا الشعور من التفاؤل، فدرسها في الجامعة، ثم أصبح يدرّسها للآخرين، مؤمناً بأن السياسة قادرة على الإصلاح والتغيير الإيجابي، ومعتقداً أن الأخطاء والانحرافات ليست سوى عثرات على طريق التقدّم، وأن «الثمار الفاسدة» تبقى استثناءً لا قاعدة. 
ومع مرور الوقت، ومع تصاعد التوترات الدولية وصعود زعماء شعبويين مثل دونالد ترامب وبوريس جونسون، بدأ هذا الإيمان يتبدّل، وراح يتأمل في التحولات التي جعلت السياسة أكثر فوضوية وتعقيداً، ويسأل نفسه بصدق: ماذا يفعل السياسيون والمفكرون حين تبدو السياسة وقد فقدت قدرتها على الإقناع والتأثير؟
ويصـــف آلن تــلك المرحلة بأنها لحظة مراجعـــة فكــرية عميقة تزامنت مع تفشي جائحة كوفــــيد-19، إذ وجد نفسه يعيش، مثل الملايــين، عزلــــة قسرية أتاحت له تأمل العالم من نافذة بيته. هناك، وسط الخوف والجمود، بدأ يدرك أن السياسة تجربة إنسانية شاملة تمسّ الحياة بكل تفاصيلها، وتختبر وعينا في كل قــــرارٍ فـــردي أو جمـــاعي. ويرى أن الأزمة جعلته يعيد التفكـــير فـي عمله كأستاذ وباحث، ويتأمل في ما يعنيه أن تكون السياسة مهنة للوعي والتفكير، وعلاقة أخلاقية بالناس والمجتمع.
ويخلص الكاتب إلى أن التفكير في السياسة اليوم يشبه التنفس في هواء ملوّث، فليس في مقدورنا أن نعيش من دونه، ولكن يمكننا أن نصبح أكثر وعياً بما نتنفسه. ويؤكد أن العالم يعيش حالة من الاضطراب غير المسبوق، إذ تتهاوى المعايير التي حكمت السياسة لعقود، وتتسارع الأحداث على نحو يجعل التفكير ذاته فعلاً مقاوماً للفوضى، ومن ثم يرى أن متابعة السياسة يجب أن تترافق مع تعلّم التفكير فيها بهدوء وصدق ومسؤولية أخلاقية تجاه الذات والآخرين.


مفاتيح القراءة السياسية


وينطلق آلن من فكرة جوهرية مفادها أن العالم في خضم أزمة متعددة الأبعاد، تتقاطع فيها القضايا البيئية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، ما يجعل العودة إلى الأساسيات أمراً ضرورياً. ويرى أن علينا، بدلاً من الانغماس في تفاصيل الأحداث اليومية، أن نمتلك أدوات فكرية تساعدنا على قراءة المشهد السياسي بوعي واتزان. ومن هنا يقــــترح خمسة مفاتيح للتفكير في السياسة هي: القــــوة، والمعرفة، والحضور، والرغـــبة، والإمكان، وهي مسارات لفهم الذات والعالـــم واستيعـــاب العلاقات التي تشكّل حياتنا.
في حديثه عن القوة، يرى آلن أنها شبكة من العلاقات التي تحدّد من يملك القدرة على الفعل ومن يُستبعد من دوائر القرار، وأنها منظومة متغلغلة في اللغة والإعلام والخطاب العام. أما حين يتناول المعرفة، فيكشف تداخلها العميق مع السلطة، مشيراً إلى أن من يمتلك المعلومة يمتلك القـــدرة علـــى صياغة الحقيقة، وأن الوعي بحدود المعرفة هو الذي يمنح الإنسان حريته.
ثم ينتقل الكاتب إلى مفهوم الحضور، أي التمثيل والمشاركة في المجال العام، متسائلاً عن من يُسمع صوته فعلاً في الحياة السياسية ومن يُغيب عن المشهد رغم حضوره. ويدعو إلى إعادة التفكير في الديمقراطية بوصفها عملية مستمرة لإشراك الناس في القرار وصياغة المصير الجماعي. بعد ذلك يتناول فكرة الرغبة أو المصلحة، فيسائل القارئ عن معنى ما يريده من السياسة، وهل تعكس خياراته حاجاته الحقيقية أم صوراً مفروضة عليه. ويجعل من التفكير السياسي فــي هذا السياق عملية وعي بالذات قــبل أن تكون حواراً حول البرامج والأحزاب.
السياسة كمساحة للتأمل والتجديد الأخلاقي
يختم آلن كتابه بفصلٍ عن الإمكان، الذي يراه جوهر السياسة ومعناها الأعمق، فهي عنده قدرة الإنسان على تخيّل ما يمكن أن يكون، ومجالٌ للأمل والعمل والإبداع الأخلاقي. فالخيال السياسي هو القوة التي تفتح باب التغيير وتمنح الإنسان حريته في تجاوز الحدود المفروضة عليه.
يقدّم الكاتب مفهوم الإمكان السياسي باعتباره جوهر الفعل الإنساني وقدرته على إعادة تشكيل الواقع. فالسياسة، في نظره، فضاءٌ من الاحتمالات، يتشكّل وفق السرديات التي تبنيها الشعوب عن ذاتها وعن علاقتها بالسلطة والحرية والمصير. والسرد السياسي يسهم في صناعة الواقع وتوسيع حدوده. وهكذا تصبح الكتابة السياسية فعلاً للحرية ووسيلةً لإعادة التفكير في التاريخ والمستقبل معاً، إذ تذكّرنا بأن العالم قابلٌ دوماً لإعادة السرد والتكوين.
يزاوج آلن بين نتائج البحث الأكاديمي الحــديث والأمثلـــة المأخوذة من الحياة اليومية والثقافـــة الشعبية، فيقرّب المفاهيم الكبرى من القــارئ العام ويجعلها حيّة وملموسة. وفي المحصلة، يقدم بيتر آلن عملاً يسعى إلى تأسيس ثقافة جديدة في التفكير السياسي تقوم على الوعي النقدي، والفهم قبل الموقف، والإصغاء قبـــل الحكم، ويــــذكّر القارئ بأن السياسة فضاء إنســــاني واسع يتسع للتساؤل والاختلاف والحلم. ومن خلال صفحاته، يدعو المؤلف إلى أن نتعلّــــم التفكير في السياسة من أجل أن نفهم أنفســـنا والعالم الذي نصنعه يوماً بعد يوم.

أخبار ذات صلة

0 تعليق