عنب بلدي – وسيم العدوي
مع اقتراب نهاية عام 2025، تتجه سوريا نحو واحدة من أكبر التحولات النقدية في تاريخها الحديث، مع إعلان مصرف سوريا المركزي عن إطلاق الليرة السورية الجديدة مطلع كانون الثاني 2026، بعد حذف صفرين من العملة المتداولة.
خطوة تصنفها الحكومة ضمن “الإصلاحات النقدية” الهادفة إلى تسهيل التعاملات وتقليل الأعباء الفنية والمحاسبية، بينما يراها خبراء الاقتصاد إجراء شكليًا قد لا يحقق أهدافه في ظل غياب إصلاحات أعمق.
جولات خارجية لتجهيز العملة الجديدة
خلال عام 2025، كثّف المركزي السوري جهوده لتجهيز العملة الجديدة، إذ قام حاكم المصرف، عبد القادر الحصرية، برفقة وزير المالية، محمد يسر برنية، بزيارة عدد من شركات طباعة العملات في عدة دول، بينها روسيا والإمارات.
وبحسب ما أعلنه الحاكم آنذاك، فقد اطلع الوفد على مراحل تجهيز العملة وخصائصها الأمنية، في إطار خطة متكاملة لطباعة فئات جديدة أكثر تطورًا من حيث الحماية ضد التزييف.
وأوضح الحصرية أن عملية طرح الليرة السورية الجديدة ستتم عبر شبكة واسعة تضم 66 شركة وأكثر من 1000 منفذ توزيع في المحافظات، لتسهيل استبدال الليرة الجديدة بالقديمة ضمن جدول زمني يهدف إلى ضمان انسيابية العملية دون ضغوط على المواطنين أو الأنظمة المصرفية.
مرسوم رئاسي يحدد آلية الاستبدال
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، أصدر المرسوم رقم “293” لعام 2025، القاضي باستبدال العملة الوطنية ومنح المصرف المركزي صلاحيات كاملة في تحديد آليات التطبيق وجدول الاستبدال وضخ الفئات الجديدة في الأسواق.
ومن المقرر أن يكشف المصرف المركزي عن الهوية البصرية الكاملة للعملة الجديدة والتفاصيل الفنية للفئات الست الأولى، في مؤتمر صحفي يعقده الحاكم في 28 من كانون الأول الحالي، يليه حفل رسمي لإطلاق العملة بداية العام الجديد.
فئات جديدة وتأجيل للألف.. دعوة لعدم الاندفاع
سيتم البدء بست فئات نقدية هي: 5، 10، 25، 50، 100، 500 ليرة سورية (جديدة).
أما فئة 1000 ليرة سورية، فسيجري تأجيل طرحها إلى المرحلة الثانية من عملية الإصدار، وفئة الليرة السورية ستتم طباعتها ولكنها رمزية، وفقًا لما أكده مصدر إعلامي مطلع لعنب بلدي (تحفظ على نشر اسمه).
واعتبر المصدر ذاته أن الهدف الأساسي من العملة الجديدة هو “تحسين خدمة التداول، مع استمرار صلاحية ومفعول العملة القديمة وقوتها الإبرائية”، وستكون مقدمة للتطوير والتنمية الاقتصادية.
وشدد المصدر على أهمية توعية المواطنين بعدم الاندفاع لاستبدال الليرة الجديدة بالقديمة بدافع “الفضول أو الخوف” حتى لا يصبح المواطن عرضة لاستغلال شركات الصرافة من خلال بيعه الليرة بسعر منخفض عن قيمتها الحقيقية، مشيرًا إلى أن الضغط على استبدال العملة قد يؤدي إلى الضغط على العملات الأجنبية الأخرى الموجودة في التداول، علمًا أن حجم المخزون الحكومي من الدولار لا يتجاوز ثلاثة مليارات دولار.
كما بيّن المصدر أن نص المرسوم الرئاسي باستبدال العملة سيؤكد على القوة الإبرائية للعملة القديمة بكل فئاتها ما دامت موجودة في التداول، مؤكدًا أهمية عدم الاندفاع على الأقل خلال الشهر الأول، حتى لا يكون الاقتصاد السوري عرضة لـ”الدولرة أو التضخم”.
وتصل نسبة التغطية الذهبية للعملة النقدية الجديدة، وفقًا للمصدر ذاته، إلى 65% من العملة الجديدة، إذ ليس من الضروري أن تكفي الأصول التي بحوزة المركزي مضافًا إليها الاحتياطي الذهبي لديه البالغ نحو 26 طنًا لتغطية العملة النقدية الجديدة بالكامل.
وكشف أيضًا أن المصرف المركزي بتاريخ 8 من كانون الأول 2024، كان مدينًا للقطاع المصرفي السوري بمبلغ 37 تريليون ليرة سورية، وتمكن بفضل إجراءاته وجهوده من تقليص هذا الدَّين إلى 19 تريليون ليرة سورية، ولم يضطر حتى تاريخه إلى الاستدانة من وزارة المالية السورية.
العملة الجديدة تحوي، بحسب تصريحات سابقة للحاكم، ميزات أمنية متقدمة تسهّل التحقق منها، إلى جانب لمسات تصميمية تساعد ضعيفي البصر والمكفوفين على استخدامها، الأمر الذي يضعها في مستوى التقنيات الحديثة المتبعة في الدول التي جددت عملاتها خلال السنوات الماضية.
خبير: خطوة شكلية دون إصلاحات أعمق
رغم الطابع الإصلاحي الذي تحاول الحكومة إظهار خطوة استبدال الليرة من خلاله، حذر الخبير الاقتصادي وعضو الهيئة التدريسية في جامعة “اليرموك” الخاصة، الدكتور محمد تيسير الفقيه، من تجاهل المخاطر الاقتصادية والقانونية المرتبطة بحذف الأصفار.
بحسب الفقيه، فإن حذف الصفرين لا يعدو كونه “تغييرًا شكليًا” ما لم ترافقه إجراءات مالية حقيقية، ويحذر من عدد من المخاطر أبرزها:
- عودة معدلات التضخم للارتفاع إذا استمر تمويل العجز بطباعة النقود.
- تعزيز ظاهرة “الدولرة” مع احتمال فقدان مزيد من الثقة في الليرة المحلية.
- تحويل المدخرات إلى الدولار والذهب والعقار.
- تكاليف مالية وإدارية مرتفعة تتعلق بطباعة النقود الجديدة وتعديل الأنظمة المحاسبية والعقود.
- ارتباك في الأسواق والتسعير يمنح التجار فرصة للتلاعب ورفع الأسعار.
التضخم وسعر الصرف والقدرة الشرائية
شدد الدكتور الفقيه على أن حذف الأصفار لا يعالج التضخم، بل قد يزيده إذا ترافق مع ضخ نقدي إضافي، كما يرى أن سعر الصرف لا يتأثر بهذه الإجراءات الشكلية، بل يخضع لعوامل العرض والطلب والاحتياطيات.
ويحذر الفقيه من احتمال ارتفاع سعر الدولار إلى مستويات تتجاوز 15 ألف ليرة قديمة إذا فقدت العملة الجديدة ثقة السوق.
وعن القدرة الشرائية، أكد أن قيمة الليرة نظرية لا تتغير، لكن الفوضى السعرية المتوقعة قد تضعف دخول السوريين بشكل ملموس، ولا سيما أصحاب الدخول الثابتة.
تسهيل التعاملات وتحسين المظهر المحاسبي
يصر مصرف سوريا المركزي على أن تعديل العملة وحذف صفرين منها لن يؤثر على القيمة الحقيقية للدخول أو المدخرات أو الالتزامات المالية، معتبرًا أن التغيير “اسمي فقط”.
وتؤكد البيانات الرسمية أن الهدف الأساسي من الخطوة هو:
- تسهيل العمليات النقدية اليومية.
- تبسيط السجلات المحاسبية والفواتير.
- تقليل حجم الكتلة الورقية المتداولة.
- رفع مستوى الميزات الأمنية في العملة.
كما أشار المركزي إلى نيته إعادة فتح فروعه في المناطق الخارجة سابقًا عن سيطرته، بما فيها محافظة إدلب، في خطوة تهدف إلى توسيع الانتشار المصرفي خلال عملية الاستبدال.
ثغرات قانونية قد تعرقل التنفيذ
أشار الخبير الفقيه إلى قصور قانون النقد الأساسي (رقم 23/2002) عن التعامل مع حالات تغيير العملة، إذ يفتقر إلى مواد واضحة تحدد كيفية تحويل العقود والرواتب والديون والإيجارات.
ويقترح إدراج مواد قانونية جديدة تنص على:
- اعتماد نسبة التحويل 100 ليرة جديدة = 10,000 ليرة قديمة.
- منع أي “تقريب صعودي” في الأسعار.
- فرض عقوبات على التلاعب بالعقود.
- منح فترة انتقالية لقبول العملتين معًا.
- تعديل الأنظمة المصرفية والمحاسبية بما يضمن الدقة والشفافية.
أكد الفقيه أن قانون النقد الأساسي يمكن أن ينظم العلاقة بين العملة الجديدة والقديمة خلال فترة الانتقال، لكنه يمنح مجلس النقد والتسليف صلاحيات واسعة في التنفيذ.
فالمواد “47، 48، 49” من قانون النقد تنظم سحب العملات وتحدد مهلًا زمنية لا تقل عن ستة أشهر، لكنها لا تحدد نسبة التحويل أو قواعد التعايش بدقة، ما يجعل الأمر رهنًا بقرارات المركزي، وشدد الخبير ذاته على أن النهج المشترك بين القانون والقرارات التنفيذية ضروري لضمان استقرار العملية ومنع النزاعات القانونية.
فترة انتقالية قد تمتد لسنوات
وفق تقديرات الفقيه، فإن تطبيق عملية حذف الأصفار بشكل كامل يحتاج إلى فترة انتقالية تتراوح بين سنة واحدة وخمس سنوات، يمر خلالها العمل بعدة مراحل:
- تحديث الأنظمة المصرفية وتدريب الموظفين.
- إطلاق رسمي في كانون الثاني 2026.
- تعايش بين العملتين حتى نهاية 2026 على الأقل، وقد تتوسع الفترة بحسب ظروف السوق.
النجاح في إدارة هذه العملية، وفق الخبير، يعتمد على استقرار سعر الصرف، ونجاح حملات التوعية، وضبط المضاربات، إضافة إلى تعاون المؤسسات الاقتصادية.
مستقبل العملة غير محسوم
يبدو أن سوريا تدخل مرحلة نقدية جديدة تحمل الكثير من الوعود، لكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى بيئة اقتصادية وسياسية مستقرة لتحقيق أهدافها، وبينما يراهن المصرف المركزي على أن تحديث العملة سيعيد الثقة بالنظام النقدي، يخشى الخبراء من أن تفقد العملة الجديدة قيمتها سريعًا إذا لم ترافقها إصلاحات مالية وإنتاجية عميقة.
ورغم الإعلان رسميًا عن أن 1 من كانون الثاني 2026 سيكون موعد إطلاق العملة السورية الجديدة، فإن مستقبلها سيعتمد إلى حد كبير على قدرة الحكومة على ضبط الأسواق، ومعالجة العجز، وتحقيق نمو اقتصادي حقيقي يضمن ثبات العملة واستقرار أسعارها.
















0 تعليق