قراءة فاحصة في وصف المدن البائسة!

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قراءة فاحصة في وصف المدن البائسة!, اليوم الأحد 13 يوليو 2025 12:43 صباحاً

هناك فرضية مفادها بأن تطوير البيئة المادية يمكن أن يقود إلى تنمية الإنسان. فعلى مدار التاريخ حاول الإنسان إثبات هذه الفرضية بتطويع البيئة لخدمة احتياجاته الأساسية، فالماء عنصر أساسي لبقاء الإنسان على قيد الحياة والغذاء أمر ضروري لاستدامة الحياة. وعلى ذلك أصبح القرب من مصادر المياه والموارد الزراعية أمرا حتميا لضمان استقرار السكان ونمو المجتمعات العمرانية. توسع هذا المفهوم ليشمل الارتقاء بالاحتياجات الأخرى كالتعليم والصحة ثم الترفيه وتعزيز الشعور بثقافة المكان والإنجاز. ازدهرت المجتمعات وتسارع النمو العمراني وأصبحت المدن هي القاسم المشترك والعنصر المحرك لتنمية المجتمعات، نظرا لما تتمتع به من موارد وفرص وظيفية وبيئة ملائمة للعيش. ومع ذلك، بقيت بعض الفئات الاجتماعية غير قادرة على اللحاق بركب الحراك الاقتصادي؛ في حين تمتعت فئات أخرى بأوضاع معيشية أفضل.

وهكذا ظهرت العديد من الإشكالات الحضرية التي جاءت نتيجة الإفراط في النمو الحضري بمعزل عن استيعاب التنوع الاجتماعي والتعددية الثقافية والتباين في أنماط المعيشة. في الحقيقة، لم تكن البيئة المادية وحدها قادرة على تنمية مجتمعات متسامحة ومتكافلة؛ بل قادت في كثير من الأحوال إلى توزيع مكاني غير عادل وفرص اقتصادية غير متكافئة وبيئة لا تحقق العدالة الاجتماعية.

تزدهر المدن وتتطور النشاطات الاقتصادية وفرص العمل لتجذب المزيد من المهاجرين الذين يجدون أنفسهم في نهاية المطاف غير قادرين على تحمل تكاليف المعيشة الباهظة وخاصة في المدن الكبرى. وغني عن البيان، فالتطوير العقاري ليس مجرد خلق كيانات مادية لتطوير الأرض؛ بل اعتبار الأرض كمحرك لتنمية الإنسان.

إن السوق العقاري «الحر» هو نظام تحدد من خلاله الأسعار وفقا لقوى العرض والطلب دون تدخل قسري من السلطة المركزية. ولكنه في الوقت ذاته هو سوق «منظم» لا يخضع للاحتكار أو الندرة المصطنعة. السوق العقاري الحر يؤكد على مبدأ المصلحة العامة وتنمية المكان لتحقيق القيمة النفعية للمجتمع بعيدا عن فكرة المضاربات العقارية وتحقيق الأرباح الاقتصادية الآنية على حساب المجتمع والبيئة المحيطة.

أرى أن التشريعات العمرانية تلعب دورا هاما في تطويع أساليب التطوير العقاري بشكل يحقق الخيارات المتنوعة التي تحقق العوائد الاجتماعية، بداية من تطوير أنماط عمرانية قادرة خلق ظروف معيشية أفضل. إن تحسين الظروف العمرانية للمجتمعات في المدن يقتضي تطوير سياسات عمرانية ليست قادرة على تلبية احتياجاتهم فحسب؛ بل تنمية أساليب معيشتهم. ولكن على النقيض أحيانا تأتي الحلول الحضرية متأخرة وضعيفة في جوهرها من خلال تبني أنماط عمرانية لاستيعاب الفقراء في مشاريع إسكان أو برامج تمويل لا تغطي ربع قيمة المسكن. مساكن وكيانات مادية في أماكن شبه نائية، بعيدة عن المناطق الحيوية ولا توفر أي فرص للارتقاء بالمعيشة. والنتيجة أن تصبح المدن مسرحا للتناقض الصارخ بين كيانات مادية تتمتع بالخدمات النوعية كافة تجاورها مناطق فقيرة ومساكن خربة.

إنها مدن بائسة تلاطمها أمواج التغيير دون خطة استراتيجية واضحة المعالم، ويقودها تطوير عقاري قائم على أساس استثماري محض. مدن غير ملهمة ولا تقدم لساكنيها سوى الاحتياجات الأساسية، وليس لها دور في تنمية المجتمعات والارتقاء بأساليب المعيشة. باختصار، إنها مجرد مدن بُنيت كعناصر مادية أو فراغات لاستيعاب السكان، وغير مرتبطة بثقافة المكان والموارد المتاحة، والمشاركة المجتمعية، فهي إذن مدن بائسة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق